التمعت النجوم في ظلام الليل، لتشكل مع ضوء القمر الباهت، لوحة في غاية الجمال تثير الرومنسية في أعماق النفس..
لكن (هدى) كانت في غفلة من تأملها، فما يشغل بالها كان أهم..
فها هو والدها يسير على الشرفة، وملامحه تظهر ألماً دفيناً..
لقد أصابه الأرق في هذه الليلة، ولم يعد يستطيع النوم..
(هدى) لم تستطع معرفة السبب !!
ترى، هل جالت ذكرى أمها الراحلة في نفسه بغتة ؟!
مستحيل !!
لقد مضت على وفاتها أعوام طويلة..
وكثيرة..
(هدى) نفسها لا تكاد تذكر ملامحها لولا صورتها..
إذاً، ماذا هناك ؟!
ما الذي أصاب أباها الغالي ؟!
نقلت حيرتها وفضولها إلى لسانها في تساؤل حزين..
وللحظات بدا لها أن والدها لم يسمعها..
إذ بقي يحدق في الفراغ البعيد..
وكأنه يناجي النجوم..
أو يرسل إليها رسالة صامتة..
رسالة يفصح فيها عما يشعر به..
-الرسالة.
نطقها أبوها فجأة، فانتفضت (هدى) وهي تشعر بدهشة عميقة..
هل قرأ أفكارها !!
وهل سيبوح لها بما يعانيه ؟؟
-إنها إلى حبيبتي.
قالها الأب بابتسامة حالمة..
ووجدت (هدى) نفسها تهتف بدهشة: حبيبتك ؟!
ثم أطلقت ضحكة عالية تحوي سخرية كبيرة، فنظر إليها أبوها عابساً، مما دفعها إلى محاولة كتمها، وهي تقول:
-منذ وعت عيناي على الدنيا، وأعرف أن أعصابك باردة، لو أخبروك أن قنبلة ذرية ستنفجر في حجرتك، لما أصابك ذلك بالأرق ! ثم إنك لا تهتم بالنساء، حتى إني لأسأل نفسي كيف تزوجت أمي ؟! والآن تقول (حبيبتي) !!
عادت الابتسامة إلى شفتي الوالد عندما نطقت كلمتها الأخيرة..
ومد يده إلى جيبه، ليخرج ورقة أعطاها لابنته..
أعطاها إياها قائلاً:
-هذه الرسالة كتبتها إلى حبيبتي.
وفتحت (هدى) الرسالة..
وبدأت تقرأها..
بعينيها ومشاعرها.
***
الكون/الوقت/دائماً/أبداً
حبيبتي الغالية..
إنه لمن المجحف بحق أن أقول (الغالية) فقط..
فأنت (الأغلى)..
نعم، أغلى حتى من روحي..
أنت تعلمين أني دائماً ما أخاطر بها، وأنا أتسلق الصعاب..
وكله لأرى عينيك الضاحكتين.
عندها تضحك عيناي أيضاً..
إني لأضع مستقبلي بين يديك كل مرة..
وإنك لتدركين ذلك جيداً..
أجازف بكل شيء، لأحصل على نظرة من عينيك الساحرتين..
عندها أحس بالدفء، ولو كنا في العاصفة والثلوج..
أنت متواضعة رغم قيمتك العالية..
لا تبدلين لباسك الفتان إلا قليلاً..
أحمر.. أصفر..
وأحلاها الأخضر، وأعلاها قيمة..
كل الرجال الذين أتحداهم يسعون خلفك بكل قواهم..
يجافيهم النوم كي يحموك مني..
ولكن هيهات..
يجب أن أصل إليك كما أفعل دائماً..
لن أبالي بالألم..
ولا بالخطر..
لا يعنيني البرد..
ولا الحر..
المهم أن أراك..
أن ألمسك..
أقبلك..
أشعرك بالدفء كما تشعرينني به..
أحميك من الغرباء..
ومن الذين أقاموا الحواجز..
أقاموها حولك كي يسجنوك..
ظنوا أنك مجرد متاع مملوك بين أصابعهم..
يا لجهلهم بك وبمشاعرك الرقيقة الحساسة !!
جسمك الرائع يؤكد رقتك وحساسيتك..
إلى درجة أنك لا تحتملين الماء..
نعم الماء يفسد جمالك الأخاذ..
آه يا حبيبتي !!
إن أويت إلى فراشي، لمحتك.
أو نظرت في النجوم، رأيتك..
في نومي، زرتك..
في وعيي، جئتك..
سيجمعنا مكان واحد..
سيكون زفافاً صامتاً..
ولن ترتدي اللون الأبيض..
أيتها العروس الباهر جمالها !!
انتظريني في موعدنا المعتاد..
وكوني واثقة من قدومي إليك..
فحياتي قائمة على ذلك..
تماماً.
ودمتِ في قلبي ومشاعري
وعيني وكياني وجيبي.
***
لم تدرِ (هدى) أهذه رسالة حب، أو أنها هذيان مجنون !!
أين تسكن هذه الحبيبة العجيبة حتى يتسلق والدها إليها مخاطراً بنفسه، مجازفاً بروحه ؟!
ثم من هي تلك الفتاة أو المرأة، التي لا ترتدي في حياتها سوى ثلاثة ألوان، ليس من بينها الأبيض، ولو كان عرسها ؟؟
وكيف يكون اللون الأخضر أعلاها قيمة ؟
ومتى كان والدها خبيراً بأثواب النساء وأسعارها ؟؟
إنها تشتري ملابسها بنفسها..
كذلك كانت والدتها من قبل كما أخبرها أبوها شخصياً..
أبوها الذي لا يجيد حتى شراء حذاء أنثوي !!
وكيف يفسد الماء المرأة ويفقدها جمالها !!
ومن هذه (السندريللا) حتى يسعى خلفها الرجال، ويقيموا الحواجز، ويظنوها ملكاً لهم !!
هناك أشياء غير مفهومة في هذه الرسالة..
لكن المهم ألا يكون والدها يقصد ما فهمته من التقبيل والدفء والجسم ما فهمته هي !!
فذلك أمر مخزٍ جداً..
فجأة، خطرت ببال (هدى) فكرة بشعة..
ترى أتكون حبيبة والدها راقصة أو مطربة في ملهى دعارة، وهناك يتصارع والدها مع الرجال عليها ؟؟
وبغضب واضح، صاحت (هدى):
-من هي حبيبتك يا أبي ؟ أجبني !!
لم يهتم والدها بغضبها..
بل لم يشعر بانفعالها أصلاً..
فذهنه كان مشغولاً بموعده المعتاد..
وبالبنايات التي عليه أن يتسلقها..
وبالرجال الذين يجب أن يغافلهم حتى يصل إليها..
إلى حبيبته... رزم الأموال !!